
فوارق مجالية تعمق أزمة إنتاج الثروة بالمغرب.. أين الخلل؟
هبة بريس -عبد اللطيف بركة
رغم الجهود المتواصلة للدولة في تعميم أوراش البنية التحتية وتعزيز الاستثمارات العمومية في مختلف جهات المملكة، لا تزال الهوة الاقتصادية بين الجهات آخذة في الاتساع، كما تكشفه أحدث المعطيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط حول مساهمة الجهات في الناتج الداخلي الإجمالي لسنة 2023.
هذا التفاوت الحاد في خلق الثروة يطرح تساؤلات عميقة حول نجاعة السياسات الترابية، وفعالية مناخ الاستثمار، ومدى نضج النموذج التنموي الجهوي.
– الأرقام أولاً: ثلاث جهات تخلق 58,5% من الثروة الوطنية
حسب تقرير المندوبية، تتركز مساهمة الناتج الداخلي الإجمالي في ثلاث جهات رئيسية:
الدار البيضاء – سطات: 32,2%
الرباط – سلا – القنيطرة: 15,7%
طنجة – تطوان – الحسيمة: 10,6%
هذه الجهات الثلاث مجتمعة تساهم بـ أكثر من نصف الثروة الوطنية، مستفيدة من قوة البنيات التحتية، وتوفر قطاعات اقتصادية محورية (الصناعة، اللوجستيك، الخدمات المالية والإدارية…).
في المقابل، ساهمت خمس جهات مجتمعة فقط بـ 33,8%، ويتعلق الأمر بكل من: مراكش-آسفي، فاس-مكناس، سوس-ماسة، بني ملال-خنيفرة، والجهة الشرقية.
أما الجهات الأربع الأقل حظًا (درعة-تافيلالت، وكلميم-واد نون، العيون-الساقية الحمراء، الداخلة-وادي الذهب)، فلم تتجاوز مساهمتها الإجمالية 7,6% فقط.
– بنية غير متوازنة تُكرّس المركزية الاقتصادية
تشير هذه الأرقام إلى تمركز اقتصادي حاد، يكرّس مركزية الثروة حول محور “الدار البيضاء – الرباط – طنجة”.
ورغم استفادة بعض الجهات الأخرى من برامج كبرى للبنية التحتية، كالمناطق الصناعية، الموانئ الجهوية، والطرق الوطنية، إلا أن تحول هذه الاستثمارات إلى إنتاج فعلي للثروة لا يزال محدودًا.
ويطرح هذا الوضع عدة أسئلة حرجة:
هل الخلل في مناخ الاستثمار المحلي؟
هل السياسات الترابية المعتمدة غير قادرة على تحفيز المستثمرين؟
ما مدى نجاعة استراتيجيات الجهوية المتقدمة في تنزيل مشاريع مدرة للدخل؟.
– المناطق الصناعية المغلقة: نموذج فشل السياسات الموضعية؟
عدد من الجهات التي لم تتجاوز مساهمتها الاقتصادية 7% من الناتج الوطني، تتوفر فعليًا على مناطق صناعية مهيكلة وغير مشغلة أو شبه مغلقة، مثل بعض الأحياء الصناعية في بني ملال، فجيج، أو كلميم،هذا الواقع يكشف خللاً بنيويًا: إنشاء مناطق مهيأة دون دراسة واقعية للمقومات المحلية أو لحاجيات المستثمرين. وقد يكون السبب أيضًا يتجسد في ضعف التكامل مع سلاسل الإنتاج الوطنية والدولية.
غياب رؤية جهوية مندمجة تربط التعليم، التكوين، والبحث العلمي بمخرجات سوق الشغل، إلى جانب
ضعف الحوافز الضريبية والمالية الموجهة للمجالات الهشة.
– الفوارق في الثروة تتعمق
أكد التقرير أن الفارق المطلق بين الناتج الداخلي الإجمالي للجهات ومتوسط الناتج الجهوي ارتفع من 73,3 مليار درهم سنة 2022 إلى 83,1 مليار درهم سنة 2023،وهو ما يعني أن السياسات الحالية لا تنجح في تقليص الفوارق، بل تعمّقها.
– نحو نموذج جهوي جديد للإنتاج
إذا أرادت الدولة تحقيق تنمية متوازنة، فإن المطلوب اليوم ليس فقط تعميم البنية التحتية، بل إعادة التفكير في السياسات الجهوية التنموية. ومن بين الحلول الممكنة،إعادة توجيه الاستثمار العمومي نحو مشاريع منتجة للقيمة المضافة فعليًا،مع ضرورة إشراك القطاع الخاص عبر شراكات مبتكرة في تنمية المناطق الهامشية، إلى جانب
تحفيز الابتكار والمقاولات الناشئة على المستوى الجهوي، والتركيز على
دعم التعليم المهني والتقني المرتبط بالخصوصيات الاقتصادية لكل جهة، مع
تمكين المجالس الجهوية من صلاحيات موسعة في التخطيط والتدبير.
إن الفجوة المتزايدة في إنتاج الثروة بين الجهات ليست معطى محايدًا، بل مؤشر على محدودية السياسات الاقتصادية الجهوية. وإذا لم تتم معالجة الاختلالات البنيوية وتثمين الرأسمال الترابي والبشري لكل جهة، فإن النموذج التنموي المغربي سيظل حبيس “ثلاثية الثروة”، مقابل “هامش جغرافي واسع لا ينتج”.
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X